جبرا إبراهيم جبرا: متى يُكرم؟

جبرا إبراهيم جبرا، شَخصية موسوعية نادرة، يعتبرهُ كثير من النقاد واحدا من أكثر الأدباء تأثيرا في حركة الأدب العربي المعاصر في القرن العشرين، لإسهاماته الإبداعية البارزة في مجالات ثقافية ومعرفية عديدة، لا يمكن تخطي دوره فيها بأي حال من الأحوال. 

وُلد جبرا في مدينة بيت لحم الفلسطينية عام 1920، درسَ في جامعة كامبرج وحصل منها على الماجستير في النقد الأدبي عام 1948، كما درس في هارفرد، وألقى محاضرات في عدد كبير من الجامعات الشهيرة، منها أكسفورد، كامبرج، لندن، ستانفورد، جامعة كليفورنيا في بيركلي وغيرها. 

انفتحَ مُبكرا على مختلف مجالات المعرفة، وأصبح مصدراً من مصادر الإشعاع الثقافي، لما حققه من إنجازات إبداعية مميزة في حقول القصة والرواية والشعر والرسم والنقد وترجمة روائع الثقافة الغربية، فضلاً عن كتابة المقالات في مجالات عديدة، والكتابة باللغة الإنجليزية شعراً ورواية ونقداً. 
 
عاش الحياة كرسام وأديب وشاعر وناقد، تميز بإغراقه في الوصف ألوانا وظلالاً، وبدقته في اختيار إيماءات ألفاظه، وبتصاعد نسيجه اللفظي باسترسال شاعري مميز، كانت ألوان الرسام تندلق عليها، وتتناغم مع إيقاعات الحروفِ ولأصوات. 

ظَهرت رسومُه التشكيلية في عام 1941 أثناء إقامته في فلسطين، وبدأ في تلك الفترة المُبكرة بكتابة القصة القصيرة والشعر، ونشر نتاجه في "الرسالة" و"الهلال" المصريتين، كما ساهم في تأسيس نادي الفنون في القدس، وكتابة روايته الأولى "صُراخ في ليل طويل" باللغة الإنجليزية في عام 1946، والتي ترجمها إلى اللغة العربية ونشرها في عام 1955، وقد حملت في دفتيها مفاهيم جديدة في فن الكتابة الروائية. 
 
هاجرَ جبرا في عام 1948 إلى بغداد مع بداية التغريبة الفلسطينية، وقد انخرط بسرعة في الحياة البغدادية الثقافية حال وصوله إليها، وأنشأ مع الفنان العراقي الكبير جواد سليم "جماعة بغداد للفن الحديث"، وأسسَ وأشرف على المجلة الأدبية الرائجة يومئذ "العاملون في النفط" الصادرة عن شركة نفط العراق، التي عمل فيها جبرا فترة طويلة من الزمن في مجالات الإعلام والنشر والترجمة والعلاقات العامة. 

امتزجَ جبرا بحياة الثقافة البغدادية، متجولاً فيها بين حقول الثقافة والمعرفة، ومن اللافت في تجربته أن هناك إجماعا على أنه كان أحد الفاعلين المهمين في مسيرة الحداثة الثقافية في العراق، التي ما لبثت أن نشرت تأثيراتها في كل الدول العربية، وهناك من يرى أنَّ صداقته قد أثرت في بدر شاكر السياب وساعدت على اقتناعه بالمدرسة التموزية.

ويقول في هذا الشأن الناقد العراقي ياسين النصير "جبرا أحد أهم المهاجرين العرب إلى العرب، رفدَ الثقافة البغدادية بترجماته وحضوره... كان مؤثرا بإبداعه، ولعل كل شخصياته الروائية والفنية حملت السمات العراقية، وجودا وممارسة وثقافة، لكنه وهو يكمل تنشئتها وتكوينها يُخرجها من العراق كوليد مسعود في أرض آبائه وأجداده، هذه المُصاهرة الفاعلة كانت أهم ما يمكن أن يُظهره فنا بعدما عَجز عن إظهاره حضورا جسديا". 

سيرة جبرا تُفصح عن إنجازات كبيرة يصعب الحديث عنها في هذه العُجالة، ويكفيني على سبيل المثال لا الحصر أن أذكر من رواياته، "صيادون في شارع ضيق"، "البحث عن وليد مسعود"، "يوميات سراب عفان"، ومن كتبه "البئر الأولى" و"شارع الأميرات". وقد استعاد فيهما شريط ذكريات حياته القديمة في فلسطين، ومن لوحاته الفنية، "الصفار " و"العائلة " و"امرأة وطفلها" و"النافذة" وكلها تفيض بالترميز والأحاسيس الجميلة. 
 
 ومن إنجازاته في مجال الشعر ثلاثة دواوين، "تموز في المدينة" ، "المدار المغلق"، "لوعة الشمس"، واللافت ذكره لفلسطين في كثير من قصائده كقصيدة "مارجيروم في بيت لحم"، و في قصيدة "ما بعد الجلجلة" والقصيدة الأولى في ديوان لوعة الشمس الذي جعلها تحية إلى القدس "مدينة المِعراج والجلجلة".

ولا أغفل هنا إنجازاتِه المُميزة في مجال الترجمة، إذ ترجم ما يزيد عن ثلاثين كتابا لمشاهير الكتاب من أمثال أوسكار وايلد، صموئيل بيكيت، ألكسندر إليوت، وليم فوكنر، أريك بنتلي، جيمس فريزر، ألبير كامو، ديلان توماس وغيرهم، كما ترجم سبعاً من أهم مسرحيات شكسبير كمكبث وهاملت وعطيل ولير وغيرها، ونحو أربعين سونيته من سوناتات شكسبير زودها بمقدمات ودراسات منه. 

إن إشعاعات جبرا الثقافية لا تنحصرُ فقط فيما سبق ذكره من إنجازات، بل تَظهر أيضا في أعمال ونشاطات أخرى كثيرة قام بها، كرئاسة لجنة التحكيم العالمية في مهرجان الفن العالمي (بغداد 1988)، و رئاسة لجنة التحكيم في مهرجان مسرح قرطاج العالمي (تونس 1991)، ورئاسة تحرير مجلة "فنون عربية" في لندن، ورئاسة رابطة نقاد الفن في العراق (1982 -1990)، وعُضوية العديد من الروايط والاتحادات الأدبية والفنية. 

التقيتُ بجبرا مرة يتيمة في بغداد في ثمانينيات القرن الماضي، وقد عَبرت له أثناء لقائي به عن اهتمامي الكبير بروايته "البحث عن وليد مسعود" وقد أثارهُ اهتمامي، وسألني عن السبب، واستغرب فرحا حين قلت له أن ابني الأصغر يحملُ هذا الاسم، قادنا الحديث إلى ذكرياته التي لا  تُنسى عن مباهج طفولته وشبابه في فلسطين، لاحظتُ أنها تزيده نضارة وتُنعشُه. 

حصلَ جبرا في حياته على أوسمةٍ وجَوائز عربية كثيرة، ونُقلت أعماله إلى كثير من اللغات الأجنبية، لكنه لم ينل التكريم الذي يستحقه بعد رحيله، فكل ما حصل عليه في فلسطين التي لم تَغب يوما عنه، تسمية "زقاق" صغير باسمه في بيت لحم لا يزيد طوله عن عشرة أمتار. 

لا أستطيع التحرُر من إحساسي بالمرارة لهذا التكريم المنقوص، لأن جبرا يستحق من بلده أكثر من هذا الزقاق الصغير، فقد قدم في حياته الكثير لها وللوطن العربي كله، ليس للأجيال المعاصرة فحسب بل لأجيال كثيرة قادمة، وأعتقد أن على الجامعات الفلسطينية وخاصة جامعتي بيرزيت وبيت لحم أن توفيه حقهُ من التكريم وتقوم بعمل يخلد ذكراه.