انطفأت شمعة نقولا زيادة قبل عام من بلوغه مئة عام، غادرنا في وقت خيم فيه الحزن على بيروت التي أحبها، وانتشر القتل والدمار وأشلاء الضحايا على امتداد الأراضي اللبنانية التي عاش عمره وفيا لها، وقد أحزنني كما أحزن غيري أن يتوقف نبض قلبه في تلك الظروف التي عاشها لبنان.
اختطفته يد المنون في أيام مثقلة بالأحداث الحزينة في فلسطين التي انكبّ يكتب عنها حتى الرمق الأخير، سجل على صفحات جريدة الحياة لحظات دراسته في مدارسها، ووصف أدق الأشياء فيها، وسجل أسماء أساتذته وأصحابه ورحلاته، والكثير من دقائق النكبة الفلسطينية وإرهاصاتها، وأعترف أنني تعلمت من كتاباته الكثير عن حيثيات الحياة الفلسطينية قبل النكبة، وشدني دوما إلى أيام خلت وعهد مضى.
كان يختار إيماءات ألفاظه بدقة، ويحكم بناء مقالاته بأسلوب جميل، يتصاعد النسيج اللفظي فيها بصور روائية متماسكة، يشد القارئ لها، يقوده بين السطور والحروف على إيقاع مساحات شاسعة من الأحداث والحكايا.
كان يدهشني كثيرا تحليله مشاعر وتصرفات الناس الذين عرفهم، ويبهرني إعادة صياغة شخوص غير معروفة، يقربها منا، ينتشلها من الماضي، وتبدو أمامنا كمعين لا ينضب من الأحداث في معترك الحياة. وأتذكر من هذه الشخوص الدلال الحاج حسن الذي أفرد له مقالة نشرت قبل عامين، عن صور الحياة القديمة في مدينة جنين، بين فيها أنَّ الدلال في عشرينيات القرن الماضي كان السبيل الوحيد لتوصيل كل الأخبار إلى الناس، يبلغ أهل البلدة بما يجب أنْ يسمعوه.
أرجع في هذه المقالة ذكرياته إلى أدق الإعلانات التي كان يلعلع الحاج حسن بها كل يوم تقريبا، وأحيانا أكثر من مرة واحدة في اليوم، وأعطى أمثلة عنها، من الإعلانات الرسمية، والاجتماعية، وخاصة ما يتعلق بالأعراس، واسترسل بالحديث عن تعليلة الأفراح والدبكة والسحجة والدلعونا، وأنهى مقالته بقوله "ألحاج حسن، دلال جنين، صورته، صوته ماثلان في ذاكرتي".
هذا التفاعل مع الشخوص المهمشة غني الدلالة عن عمق ارتباط فقيدنا بأفعال الحياة العادية وأدق دقائقها، واهتمامه بالفئات المهمشة وتواصله معها، كالحاج حسن الذي رسم من خلاله أدق التفاصيل عن الحياة الشعبية في فلسطين وشكل منها نسقا معرفيا فريدا، اجتماعيا وتراثيا.
لقد وزعت نسخا من تلك المقالة على عدد من أهل جنين، وأجمعوا على أنّها رسمت لهم صورا جميلة عن حياة أهلهم، وأثارت فيهم حلم العودة إلى جنين، وشوقهم إلى المزيد من أخبار أيّام زمان.
غادرنا فقيدنا مخلفا وراءَه تركة ثمينة مثقلة بالكتب والبحوث القيمة، تمحورت مواضيعها حول قضايا كثيرة، تاريخية وقومية وإنسانية، وحكايا استوقفته الأشياء الصغيرة فيها قبل الكبيرة، سطر فيها ما يهم الوطن العربي كله، وبخاصة الدول الثلاث التي انتمى إليها وأحّبها، لبنان وفلسطين وسورية.
لم يرقد فقيدنا في الهزيع الأخير من عمره محموما، متدثرا بذكرياته، مرجعا خياله بها لوحده، بكل أستار الغموض، بل على العكس شارك الناس بكل ما في جعبته من ذكريات، حمل قلمه، مادا جسورا من السطور والكلمات مع قراءه على صفحات جريدة الحياة، في لوحات إبداعية من السرد.
بدلاً من أن يستسلم للشيخوخة، استغل وقته بحماسة فائقة، في ضبط إيقاع قلمه، والكتابة بضمير يقظ في شتى جوانب حياته المديدة، ظل ساهرا على توضيحها، وإيصالها إلينا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
لا أظنني أجاري صرعة إعلامية ظرفية حين أقول إنّ الموت لم ينه حياة نقولا زيادة بتوقف نبضات قلبه، لأنَّ أمثاله يبقون معنا بأعمالهم، تظل كلماتهم إلى أبد الدهر، سوف يظل بيننا يثري حياتنا الثقافية، ويضيء الوعي الإنساني فينا، والأمل كبير أن تقوم الدول الثلاث التي انتمى لها بإحياء ذكراه، وجعله في مصاف أهمّ أعلامها.
وأتمنى على الجامعات الفلسطينية أنْ تكرم فقيدنا، ولعل جامعة بيرزيت،أم الجامعات الفلسطينية تعطيه حقه من التكريم، وتحيي أيضا ذكرى آخرين ممن أثرَوا الثقافة العربية بأقلامهم وعانوا عذاب البعاد عن فلسطين، وأخص بالذكر منهم، إحسان عباس، سمير قصير، جبرا إبراهيم جبرا. وكلي أمل أن يتوافر الحشد اللازم لحماية ذكراهم، وتقديم أوسمة لهم من الاحترام والتكريم.