مهداة إلى: ابتسام وفادي
حروف هذا العنوان ليست مني، وليست حديثة أيضا، فقد نسجها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قبل عقود زمنية طويلة، أشعل بها قناديل فكره، وشمخت بها علاقته مع الآخر بقدر عال من المحبة والتسامح، بإعطائه العلاقات الإنسانية ما بين البشر دفقا روحيا بقوافي شعرية صوفية راقية، تعبر عن رقة عاطفته المنسابة في احترام الآخر وقبوله وضبط علاقات تصالح وإخاء مميزة معه، أحوج ما نكون لها الآن في الزمن المعاصر.
ولهذا يعتبر الشيخ محيي الدين بن عربي حسب إجماع المصادر "من أشهر رجال التصوف وعلم من أعلام أصحاب الحقيقة وقطب من أقطاب أهل الطريقة، رأى أن العالم كله يقوم بحقيقة الإنسان الكامل، ولم يضع حدا في مفهومه للإنسان لأي فرق بين من هم أبناء دين واحد ومن هم خارجه، كما أعاد الاعتبار للمرأة كطرف أساسي كالرجل في هذا المفهوم ."
وبهذا تجاوز ابن عربي كل ما يمُت للأهل والقبيلة والملة والطائفة، ورفضَ كل أشكال التمييز بين البشر في المعتقد أو الجنس، وزاوج في فكره ما بين التعاليم الروحية والتأملات وأساليب التفكير العلمي الفلسفي، واعتبر أن المعرفة هي معرفة قلبية بالدرجة الأولى، فالقلب هو الدليل، وهو الرمز الأكبر للذات الإنسانية، وهو الروح والعقل والنفس والجسم، وفيه تتبدى الحقيقة.
لم يكن ابن عربي في التراث الصوفي مجرد عالم لامع فحسب، بل كان متفردا بين علماء عصره بشاعرية قل نظيرها في الفكر التأملي، عبر عنها برهافة عن تسامحه مع عقائد الآخرين وإيمانه بوحدة الوجود وصحة الأديان كلها، والتسامي فوق الفوارق ما بين البشر، والبحث دوما عن سبل التقارب الجامعة لهم على أساس من المودة والمحبة والتسامح، وقد عبر عن كل هذا في قوله:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
والعنوان المبين أعلاه في بداية هذه السطور، هو عنوان أبيات شعرية لابن عربي، يتسع قلبه فيها لكل العقائد، المسيحية والإسلام واليهودية والوثنية معا، سجلها في ديوان شعره الشهير الموسوم "ترجمان الأشواق"، ردد فيها في مساحة واسعة من الوضوح والشفافية قائلاً:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
لا ريب أن هذه الكلمات، تحجب الضغينة والحقد والانغلاق على الذات، وتُلغي أيضا صراع الحضارات، وتبني أعمدة للمحبة والعلاقات الإنسانية بين البشر، لأن الحب يتسع لكل صور العبادات، سواء ترددت تلك الشعائر في الأديرة أو المساجد أو في غيرها من المعابد.
ولد ابن عربي في شرقي الأندلس، وقام برحلات عديدة بين المغرب ومصر والعراق و سورية وفلسطين، حتى استقر في دمشق، ووافته المنية فيها في عام 1240م، ودفن في سفح جبل قاسيون، وتسمى الآن المنطقة التي فيها ضريحه باسمه "الشيخ محيي الدين".
ثمة إجماع على أن ابن عربي لم يكن مؤلفا عاديا مثل غيره من المؤلفين، وانه كان يتميز عن غيره من الناحيتين الكمية والكيفية، ويعتمد في مؤلفاته على احترامه للإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه، ويعتبره النقاد من "أخصب المؤلفين عقلا وأخصبهم خيالا". وكانت أفكاره محط اهتمام العلماء والفلاسفة، في أيامه وبعد رحيله، وثمة دلائل تشير إلى استفادة الشاعر الإيطالي دانتي في العصور الوسطى من مؤلفات ابن عربي، وعلى الأخص من كتابه "الفتوحات المكية" الذي يضم بين دفتيه أربعة آلاف صفحة، وألفه خلال فترة تقرب من أربعين عاما.
ومن المثير أنَّ ثمة اهتماماً عالمياً كبيراً في الوقت الحاضر بالمنحى الشخصي والسيرة الذاتية لابن عربي، يتجسد بوجود جمعيات مرموقة تحمل اسمه في دول كثيرة، تعنى بنشر ودراسة وترجمة أعماله، لها أعضاء من الباحثين والكتاب والعلماء، و تعقد اجتماعات ومؤتمرات لاستيعاب التجربة الروحية التي تتجلى في أفكاره وأشعاره، وتعتبر هذه الجمعيات شهادة دامغة على المكانة المرموقة التي يحتلها في ساحة الحضارة الإنسانية.
و من أهم هذه الجمعيات، جمعية أسّست في أكسفورد عام 1977، تحمل اسم ابن عربي، لها فرع في سان فرنسيسكو، تنحصر أعمالها بإصدار مجلة باسمه وترجمة أعماله ونشرها، وعقد المؤتمرات والندوات واللقاءات التي يشارك فيها أعضاء الجمعية وغيرهم من المهتمين.
والجديد في عصر الانترنت، وجود مواقع كثيرة باسم ابن عربي على الشبكة تعنى به وبفكره، وقد اطلعتُ أثناء كتابتي هذه السطور على عدة مواقع منها موقع مميز لجمعية أوكسفورد السابق ذكرها www.ibnarabisociety.org يكشف عن أنشطتها بكل ما فيها من أحداث ولقاءات واهتمامات يومية وإصدارات جديدة، ولاحظتُ وجود فرق موسيقية مختصة به، تغني أشعاره وتوزعها بأقراص مدمجة، وسمعت مقطوعة موسيقية للموسيقار اليوناني العالمي الشهيرYanni تحمل اسم "دين الحب لابن عربي" تنساب أنغامها بإيقاع جميل على وقع مناظر طبيعية تتقافز بأطياف لونية خلابة، وتظهر معها بلقطات متصلة أبيات الشعر السابق ذكرها مكتوبة بأحرف نافرة باللغة الإنجليزبة.
وختاما علي هنا إدراج استدراك مهم، ألا وهو أنّ حديثي عن ابن عربي لا يشكل تأييدا شاملا لنزعة التصوف التقليدية بطرقها المختلفة، بل إنّه يتضمن فقط جوانب تعريفية بالمعاني السامية لدين الحب الذي تبناه ابن عربي بكل ما يقتضيه من التزام بمبدأ المحبة الشاملة والإخاء ما بين البشر لخير الإنسانية جمعاء، بغض النظر عن اختلاف عقائدهم ومنابتهم العرقية، وهذا ما تحتاجه الدول العربية، في هذا الزمن الذي تتسع فيه تخوم التفرقة ما بين أبناء الوطن الواحد، وتنتشر فتاوى تكفير الآخر تارة، وتهميشه وتجاهله تارة أخرى، وعدم الاعتراف به أيضاً بسبب اختلاف الدين والمذهب.