في الأسبوع الأخير من شهر نيسان سنة 1948 سقطت مدينة حيفا، وتم تشريد أكثر من مئة ألف عربي من منطقتها... في مثل هذا التاريخ من ستة عقود مضت ألقيت آخر نظرة على حيفا، لاحَت لي لأول مرة مجللة بالسواد، بينما اندفعت شاحنات قافلة طويلة كانت تنقل أسرتي مع مئات النازحين بسرعة عبر شارع الناصرة الواقع في طرفها الشرقي... خرجتُ منها طفلا كان عمري آنئذ في حدود التاسعة، رحلت عنها مع أسرتي ساعين إلى بلدة برقا مسقط رأس والدي... تمزق قلبي الصغير، وأنا أرى الدموع متصلبة في العيون... اكتشفت في طفولتي الباكرة مرارة جراح الهزيمة، كان كل شيء مظلما، فقدتُ بيتي وزملائي في المدرسة الابتدائية… تداعى كل شيء حولي، وسُلبت مني دنيا الطفولة والصبا بكل ما فيها من براءة وعفوية وصفاء.
عميقا في غور الذكريات تتلاحق أمام عينيَّ مشاهد تلك الأيام الحزينة، أتذكر الكثير من الأحداث التي سبقت ساعة الرحيل، أتذكر أحداث المصادمات القاسية التي عمت حيفا، وتتابُعها بسلسلة متصلة الحلقات في سياق من التصعيد المستمر، غدت بها المدينة الوادعة ساحة للقتال، ما كان بوسع أحد أنْ يحسّ بالأمان... كانت ثمة مكامن كثيرة لليهود تهدد العرب في قلب أحيائهم وفي مداخل بيوتهم، بحكم مواقعهم المرتفعة في الهدار والكرمل التي تشرف على الأحياء العربية، كان لدى العدو كل ما يلزمُه من مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة، مما جعل عصاباته متفوقة قوة وعتادا وتنظيما، على عكس أهل حيفا الذين كانوا رغم روحهم الوطنية المتأججة في حالة ضعف، يصعب عليهم الحصول على السلاح والعتاد، رغم مواصلة إرسالهم البعثات تلو البعثات إلى القاهرة ودمشق للحصول على الأسلحة التي وعدت بها قرارات مؤتمرات جامعة الدول العربية.
في غمار تلك المشاهد، أتذكر الكثير من تفاصيل حراك أحداث دامية، أدرك فيها الآن كابوس اختلاط الزمن والوقائع معا، مثل معركة معامل تكرير البترول، ومعركة ضاحيتي حواسة وبلد الشيخ من ضواحي حيفا، ومذبحة الطنطورة من القرى المجاورة لها، واعتداءات عساكر الهاجاناة وغيرهم من العصابات اليهودية على شوارع العراق والحجاز والملوك والبور وصلاح الدين ودوار السعادة، واحتلالهم لمداخل حيفا الرئيسية، وارتكابهم سلسلة من المجازر المروعة بحق الأبرياء.
من وفرة تلك الأحداث كانت تكثر الأحاديث عنها بشكل دائم... كان والدي يتحدث عنها بمرارة شديدة، إلى أصدقائه وزواره الذين كانوا يترددون على بيتنا على نحو شبه دوري، ومفاجئ أحيانا، وازدادت زياراتهم بعد أن نشطت الاعتداءات على الأحياء العربية واتسع نطاقها وبدأ النزوح من بعض أجزاء المدينة، كحي الغزازوة، ووادي الجمال، وحي البرج، وحي الحليصة، وحي الشاذلية، وحي الزيتون وغيرها... بعد ذلك اشتد النزوح في أجزاء أخرى من المدينة بسبب ضعف وسائل الدفاع العربية وعجزها عن حماية الأرواح، ومن ثم امتد النزوح المأساوي بشكل مرعب يوما بعد يوم ليشمل كل المدينة، عندما نفد السلاح والعتاد، وانتهت المقاومة العربية في الساعة التاسعة من صباح يوم 23 نيسان 1948.
يصف هذا النزوح قائد المقاومة في حيفا وقتذاك المرحوم رشيد الحاج إبراهيم، في مذكراته التي نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية قبل ثلاثة أعوام قائلاً: "آلاف من النساء والأطفال والرجال يهرعون إلى منطقة الميناء بحالة من الفوضى والذعر، لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمة العربية، خرجوا من بيوتهم حفاة عراة إلى الشاطئ ينتظرون دورهم للسفر إلى لبنان، وقد تركوا بيوتهم، متاعهم، مالهم، مصالحهم، متاجرهم... جلوا عن مدينتهم وهم في أسوأ الحالات، وزاد عدد المشردين في حيفا وضواحيها عن مئة ألف عربي".
وعن صدى سقوط حيفا، تتضمن نفس المذكرات السابق ذكرها، افتتاحية لجريدة الحياة البيروتية نشرت في عدد يوم السبت بتاريخ 24/4/1948، بقلم كامل مروة، ما نصه:
"احتل اليهود حيفا وبسطوا سيطرتهم على القسم الأكبر من المنطقة كلها، ولم يكن هذا النبأ بالمفاجئ للكثيرين إذ إنَّ اليهود يملكون أكثرية ساحقة في حيفا ويملكون جميع المستعمرات المحيطة بها، ومنذ أشهر والعرب في حيفا يستنجدون ويطلبون المدد فلم تلاق طلباتهم أي رد فعل، ولم يتخذ الجانب العربي تدابير تستحق الذكر فكانت هذه المأساة... بيد أن سقوط حيفا هو عبرة لنا، إنه دليل على إجرام العقلية التي أدار بها ساسة العرب قضية فلسطين، إنه دليل على قصر نظرهم وعجزهم وجبنهم...".
حقائق ومعطيات كثيرة فرضت نفسها بعد إقامة دولة إسرائيل في عام 1948، وانتشار الشعب الفلسطيني في الشتات، منها عدة حروب نظامية، وحروب عصابات، وعقد مؤتمرات للسلام، وإجراء مفاوضات، وإبرام اتفاقيات (كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة)، ورغم كل الجهود المبذولة لم تتمكن الأطراف المعنية من حسم الصراع وتحقيق السلام، بل حتى إنّ سياسة التهجير والاقتلاع وضم الأراضي وإبادة الشعب الفلسطيني لم تتوقف للحظة منذ بداية النكبة وحتى الآن.
على الرغم مما تعرض له الشعب الفلسطيني على امتداد ستة عقود من كل أنواع الظلم والاضطهاد والتشريد والمآسي والإحباطات، إلا أن إرادته لم تكسر، ولا يزال متشبثا بثوابته الوطنية، مليئاً بالحيوية وشحنات التحدي الدائمة بلا انتهاء، ويحتفظ مع مرور الأيام بذاكرة متوهجة تنبض بالحياة عن فلسطين، ينقلها من جيل إلى آخر، تمتد كجسور عبر الأجيال، تتألق فيها مفاتيح البيوت، وأوراق سند "الطابو" الثبوتية بامتلاك الأراضي والبيارات والبساتين، والمزيد المزيد من المقتنيات التي نستشعر منها حياة إنسانية تعج بأحداث لا تعرف النسيان.
لدي من والدي العديد من المقتنيات القديمة التي تجسد لي ذاكرة لا حدود لها عن أيّامنا الماضية، تتمحور في تفاصيلها حول ما تركه من مفاتيح وأوراق وصور ومجلات وطوابع بريدية وعملات معدنية وورقية وأدوات منزلية ملفعة كلها بجراح السنين... كلما أنظر لها مهما تناهت في صغرها أرى كونا عجيبا من السحر والجمال، أسترجعُ فيه دائما أيامي القديمة، مترعة بتفاصيل ذكريات طفولتي، أتصفحها صفحة تلو الأخرى، أتلمس فيها جذور أهلي وأجدادي، تجتاح كياني، تحررني من إحباطي وتشحنني بطاقة تجل عن الوصف... تحملني هاتيك المقتنيات، إلى أرض مولدي... إلى شوارع حيفا العتيقة، و إلى شريط ساحلي من الرمل الأبيض الممتد على شاطئ بحرها، حيث أمضيت طفولتي العاصفة، وإلى برقا المنداة بالحنون... أجد فيها ذاتي مشغولا بالأرض، سارحا على امتداد حواكيرها، منتشيا بنبع عين الدلبي والحوض والخسيف والعين الفوقة والتحتة وبير دار مسعود، وبتراب السهل والمسعودية والشلعوطية والبوبع واجنيفشة وسرطاسه ووادي الشامي ووادي البلد، متألقا بين أشجار اللوز والزيتون والتين والرمان ومعرشات الدوالي، أمضي حولها جيئة وذهابا، وأستشعر نفسي من جديد.
غدا، قبل انتهاء رحلة العمر والعبور إلى ما وراء الأفق، سوف أسلم مقتنيات أبي إلى أولادي وأحفادي، لتنبض بذاكرة دائمة في حياتهم، تكون لهم بؤرة رؤية لاقطة، يواصلون بها اقتفاء آثار جدودهم في فلسطين مثلما فعلت، ويُقلبون بها الصفحات تلو الصفحات، لاكتشاف الذات في مرآة النفس والآخر، ومواصلة السير عبر عروق الأمل.. عسى أن تصل أشرعتهم يوما إلى مرفأ حيفا.