بآفاق أيامي المثقلة بالأسفار، يترامى في عيني تراب بلادي، ألمح فيه لباليب الزيتون وهي راقصة مع هبات الريح الشرقية، مائجة في خطوط الفجر مع انبعاث كل صبح جديد، وأشم فيه روائح الكوانين التشرينية، وألامس أرغفة الخبز المخضبة برظف الطابون*.
أتذكر عبق الزمن الماضي، ينساب في أعماقي، ألتقي به بكل الناس الذين يعانقون أسقف الجنة هناك، أحمل وجوههم معي في مسارات التيه أنى ذهبت، وها هم هنا بجانبي يتمرغون معي على صلبان الغربة في مدن الشمال الجليدية، وسوف يبقون معي مرساة لأيّامي القادمة، حتى تخفت الفوانيس، وتسدل الستائر على أبواب العمر.
قبل أيام كنت في رحاب الوطن، لامست ياقوت ترابه المترامي في حشايا أتلام الأرض، كان اللقاء نابضا بترانيم قدسية، أفعمني سرورا، ستبقى صوره موشومة في ذاكرتي وخوابي جعبتي، ملفعة بفيض من أوراق اللوز والزيتون.
تذكرت وأنا أستشعر نفسي تحت أجنحة الوطن، أنَّ الصديق شفيق ديب قد انتزع مني وعدا بأن أزوره في عكا، وشجعني صديق الطفولة والصبا صخر الخطيب أن نشد الرحال معا إلى عكا.
كانت رحلتي إلى الشمال الفلسطيني، في ذاك اليوم الربيعي، من أيّام عمري التي لا تنسى، انطلقت مع صديقي من نابلس، واتجهنا غربا إلى الطريق الساحلي الممتد ما بين يافا وحيفا، كانت تجتاحني الذكريات طيلة الوقت، تلاحقني دقائق تاريخنا الحزين، وما بين قصة حزن وأخرى (وما أكثرها) كنت أصافح كل أزهار الحنون الملتفة حول الطريق، سارحا بعيني بين ذرات التراب وأمواج البحر التي ترامت أمامي في تلافيف المدى.
وحين رأيت حيفا، أسرفت بالذكريات في طرقاتها المسكونة بالأحزان، لقد جمعت حيفا شمل أيامي القديمة، وتخيلت والدي سائرا في شارع الناصرة، حاملا بيديه حلوى (هريسة معطرة كنت أعشقها)، وتخيلته ملوحا لي عن بعد، وتخيلت نفسي راكضا نحوه، ناثرا أصابعي الصغيرة في كفيه.
شاهدت عن بعد في آخر شارع الناصرة البيت الذي سكنته في صغري مع أهلي، جئته، طفت حوله سبعا والأبواب موصدة ، وغصة في القلب تدميني، أعدت تراكيب الأمس مترعا بكل ما مضى، سمعت دبيب أقدام أمي به، وشممت رائحة قهوتها، ورأيت معالقها وصحونها ومغارف قدرها، وسمعت رنين صوتها مع انزلاق الصدى.
______________________
* قطع من الحجارة صغيرة الحجم .
أوغلت في ذكرى الأيّام العتيقة، تذكرت الكثيرين من أبناء جيلي ونحن نلهو على شاطئ حيفا، ونسطر على رماله خطواتنا الأولى.
ما زلت غارقا في رمالها وأمواجها، ونجيلها وسروها وأشجار الخروب باسقة على أكتاف كرملها، وأتساءل دوما كلما أجيء على ذكرها : (لماذا وألف لماذا أخرى حولها أسجلها دوما على طريقة التوحيدي) حياتنا ضرب من الحزن الأزلي؟ لماذا نحن مسرفون حد الجنون في أحزاننا؟
والآن أعود إلى سياق رحلتي من جديد. خرجت مع صخر من حيفا، والطريق حولنا تتلوى، وبعد وقت قصير دخلنا أبواب عكا، ولم يبق من قوس الصبر منزع (كما يقول النحاة)، فقد كان شوقي لها أكثر من أن يوصف، ضممتها في عيني، وما زالت بين الرموش لا تفارقني. .
ولأنه بالصدف تولد أحلى اللحظات، بالصدفة المحضة عرفني الصديق شفيق ديب بالروائي جريس طنوس الذي تفوح في أحاديثه روائح عكا الزكية، كان اللقاء به مميزا، أنعشني حديثه عما خبأته الأيام في أصدافه من حكايات ممهورة بحب الأرض والتراب، وشعرت أنّ الشعر والحروف تجمعنا، وأثلج صدري عندما أهداني ثلاث روايات له: رواية أيد القدر، ورواية من الذاكرة: مسيرة جيل كنت أحد أبنائه، ورواية: ذاكرة الأيام، نشر فصلا منها بالعبرية، وسببه في ذلك أن يطلع القارئ اليهودي بلغته على العلاقة الوثيقة للفلسطيني بأرضه ووطنه. وليقول له ما قاله صديقه الروائي الراحل إيميل حبيبي من قبل "باقون هنا".
بعد هذا اللقاء المميز، تعرفت على عكا من جديد، عرفني شفيق بالأزقة العتيقة المنداحة في رحابها، وحول سورها، الذي صد نابليون يوما، وما زال شامخا في وجه الغزاة. .
بديعة تلك الأزقة، مثقلة بحكايا آلاف السنين، رأيت فيها بيوتا بأحجارها الملساء تبحث عن أهلها، وجدت بينها أقبية كانت للصوفيين، تخيلتها بزخمها القديم مفعمة رقصا وإيقاعا، وتخيلت محيي الدين بن عربي بينهم، يقول لهم: لا تتركوا حجرا ناقصا منها، ابقوا عكا الأثيرة برا وبحرا تتهادى في نشيج الأبدية.
فارقت عكا في مساء ذاك اليوم الربيعي، وقد اختمرت في عيني وقلبي، وأستطيع أن أصفها بنفس وصف بابلو نيرودا لباريس: تحاكي عنقودا من لؤلؤات حزينة.
وثمة شيء آخر أضعه بين معقوفتين لمحته فيها وأنا خارجٌ منها، بعد أن أرخى الليل خيمته عليها، وصار القمر مرئيا على أمواجها، أدركت منه أنَّ وميضه منها، وأنّه: بمصابيح عكا يلمع القمر. .