طفولة شاعر

تعرف على الشعر مرسوماً على أسطر راقصة مع بدء أيامه الباكرة، تحسس فيه وجه أيّامه، ودارت حوله القوافي فيئا... روحاً وحلماً... كانت له محارة تخيلات حالمة ترتخي حوله تلفه بلا انتهاء... رسم تصاويرها على أجنحة فراشات كثيرة كانت تتطاير حوله على اتساع زرقة بحر حيفا، وظلت معها طفولته على حالها لا تعطي بالاً للزمن.
 
 مضى عابراً العمر مع تراكم السنين، وبقي مع القوافي طفلا مرحا رضيا على حاله لا يكبر، تكسوه أحلامه، تشحنه بشحنات صفا ء على إيقاع طفولة دائمة... صفاء مع النفس، ومع الآخر، في خضم دورات متصلة من الحب والهجر والفراق والأشواق والعطاء، مر بها عبر مرايا طيوف وجوه حامت حوله، أقام لها بين لحظة وأخرى معابدَ على أسطح النجوم.

لف أيّامه بتصاوير كثيرة علقها فوق حواف أمواج واسعة مليئة بأوراق عمره، تدلت حولها قوافيه برنات عشق صاخبة، مزنرة بأجنحة مرئية ولا مرئية، تطايرت عبر السنين في تلافيف الريح، ناثرة على وقع أيامه فيض حكايا كثيرة بأحلام مؤنسة.
مر في محطات عديدة على إيقاع خيط حياة مليئة بالمصادفات عبر سيرة وجدانية طويلة وتفاعلات معادلات عاطفية تتابعت فصولها و طافت فيها أحلامه حول آلاف الآفاق، حلق فيها بكل أبعادها، بقيت معه على مدى أيّامه... رسمت له ألوان قوس قزح دائمة في عينيه.

رَشَّ زخرفة شامات كثيرة في قوافيه... أباريق من الحبر خط بها حروف عطف اعشوشبت على امتداد جدائل طويلة، تمايلت فوق انحناءات الصدور، وذابت في حمرة الشفاه القانية... دونما مهرب، دارى بها رعشات عشق حانية.

بعيدا عن رماد السنين لف قوافيه بستائر أحلام رفرفت حوله في كل اتجاه... طُيوفُ تيارات من الأفراح،  كست أيامه وهو يمضي وحده في عروق طفولته الدائمة... ظل بها على حاله رقيقا غضا فتيا. 
مصغياً لنداء حالم سعى إلى مراسي مدن كثيرة، انساب فيها يمد قلبه المليء حبا على امتداد الدروب القصية، يمضي ويمضي، ويشد قوافيه في ذؤابة عطف على صدور كثيرة تطوف رذاذا على أقداح الزمن.
 
وتمر السنون، واحدة إثر أخرى، ويظل محاصرا بصفاء القوافي، يفتح قلبه لكل طنين دندنة شجية، يرسم على إيقاعها ورود عشق تتمايل في بحور الندى.

واصل أيّامه في دائرتين واسعتين على امتداد المدى، واحدة تكبر مع فيض السنين تنسيه القوافي فيض أيّامها، وواحدة يتهادى فيها في غمار الحياة كطفل صغير لا يكبر فيها يظل على حاله مقمطا بأمواج حيفا.

كان يحلم دوما بجدائل تخفق حوله قولا وفعلا، كان يراها مع غباش ومضات شبه مرئية كانت تأتي من بعيد بعيد... كان يصحو دوما على زحف حلم لها، يراها عن بعد مع هب رياح آتية.

ذات يوم أطلت عليه... أتت له على وقع هبوب رنين أجراس عالية، مد لها يدا... لم تر الطفل به، لها ما لها، وله صحاري أيامه الخاوية، فك حروف القوافي على صدرها ...أسدلها حولها على إيقاع قيثارة وشحها بزهور على امتداد ملايين أميال طويلة.

رقيقة مثلما النسيم كانت قوافيه لها، طرزها على خفق حروف عذبة استلها من عروقه، لفعها بدفق من الأحلام ... خطها بحروف أبجديات عديدة، مدها في أسطر أوراقه إلى أبعد ما يحيط.

لم تقرأ حرفا له، لم يكن ثمة وقت عندها لأحاجي الحروف في عراء لياليها الناعسة... تلاشت تفاصيل قوافيه عندها، وفي كوة على معابر مدارات كثيرة للجراح، قالت له كلمات تمحي كل ألوان المسرة، اخترقت أعماقه، تركت ندوبا بين موجة من العروق وأخرى.

صرخت به دونما رحمة... تصاعدت الحروف منها غماما، لملمت منه على هواها شظايا من رماد كهولة خاوية، أرخت شعرها، وارتخت في ظلال أسهم لها مشدودة إلى أقواس بعيدة كثيرة... واحدا إثر آخر!!!! 

أفاق الطفل الصغير المجبول في داخله، يشع حزنا ... استوعب ما قالته خطفا... التقط أنفاسه، بعد صمت معاتب... ردد بأعلى صوته شعرا عن قلبها الحجري، ردده طويلا، طويلا.

افترقا، تاها كالصدى، في مكان بعيدٍ... بعيد، خارج الزمان، وكل ظلال الأمكنة.